القدِّيس غريغوريوس الثيولوغوس (اللاهوتي)
مــنــتــدى الــكــنــيــســة الأرثــوذكــســيــة - فــلــســطــيــن - الأرض الــمــقدســة :: الفئة الأولى :: سير القديسين
صفحة 1 من اصل 1
القدِّيس غريغوريوس الثيولوغوس (اللاهوتي)
القدِّيس غريغوريوس الثيولوغوس (اللاهوتي)
25 /1 شرقي (7 /2 غربي)
هو معروف أيضاً بلقب النزينزي نسبة إلى مدينة نزينزة من أعمال قيصرية الكابودوك. في هذه المدينة نشأ قديسنا وترعرع. ويبدو أن ولادته كانت في مزرعة قريبة من المدينة تدعى أرينزة ملكتها العائلة، تاريخ ولادته غير محدد تماماً يظن أنه نحو سنة 329/330م.
أبوه هو القديس غريغوريوس الشيخ المعيّد له في أول كانون ثاني، انتمى والده منذ الصغر إلى نِحلة تعرف بـ "عبّاد العلي" أو "الإيبسيستاري"، جمعت بين الوثنية إلى بعض اليهودية وأكرمت النور والنار. لكنه كان رجل استقامة بحسب الناموس الطبيعي. اهتدى واعتمد بتأثير زوجته المؤمنة وسلك في الفضيلة. لوحظ لفضله وحكمته وغيرته على الكنيسة فأختير أسقفاً على مدينة نزينزة. أحب الفقير حباً كبيراً وعاش إلى مئة عام.
أما أمه فهي القديسة نونة المعيّد لها في الخامس من شهر آب، كانت زينة النساء المسيحيات تقية مصليّة فاضلة حكيمة وصبورة. نذرت قديسنا لله حتى قبل أن يبصر النور. فلما أنجبته جعلت يديه كلتيهما على الإنجيل علامة تكريسها إياه لخدمة الله. وإلى غريغوريوس أنجب الزوجان الفاضلان بنتاً وصبياً، وكلاهما قديس: غرغونية يعيّد لها في 23 شباط، وقيصاريوس ويعيّد له في 25 شباط.
في طفولته أتاه حلم انطبع في نفسه، أن عذراوين جاءتا إليه مجلّلتين بالبياض، اسم إحداهما "أغني" (طهارة) واسم الثانية "إفروسيني" (عفة) وأخبرتاه أنهما ترافقان الرب يسوع على الدوام وكذا الذين يلتمسون الحياة السماوية. كما دعتاه إلى توحيد قلبه وروحه بهما حتى إذا ما امتلأ من بهاء البتولية قدّمتاه إلى نور الثالوث القدوس.
بقي غريغوريوس في نزينزة حتى الثالثة عشرة من العمر، حصل خلالها ما أمكنه من العلوم المعرفة. ثم انتقل إلى قيصرية الكبادوك حيث التقى القديس باسيليوس الكبير الذي أصبح فيما بعد أعز أصدقاءه وربيب عمره وأليف نفسه. ثم اتجه إلى قيصرية فلسطين ولاحقاً إلى الإسكندرية باحثاً عن العلم والمعرفة. وفي سن السابعة عشرة انتقل إلى أثينا ليدرس البلاغة والشعر والأدب والفلسفة على يد أشهر معلمي ذاك الزمان. وهناك التقى قديسنا مع باسيليوس من جديد ونمت الصداقة بينهما إلى أبعد الحدود. وقد تابعا الدراسة سوية سنوات.
في سفره من الإسكندرية إلى أثينا وتحديداً في مياه جزيرة قبرص، تعرض المركب الذي يبحر فيه غريغوريوس إلى عواصف جمة، وتلهّت به الرياح عشرين يوماً ويزيد. نفذ ماء الشرب ولاح شبح الموت ثقيلاً كل يوم. ارتعب غريغوريوس وارتجت نفسه حتى العظم، والسبب أنه لم يكن قد نال سر المعمودية بعد. وإذ خشي غريغوريوس أن يُقضى عليه من دون أن يعتمد ركع وصلى بدموع وعاهد ربه على خدمته ما حيي لو قدّر له أن ينجو من هذا الخطر. للحال هدأت العاصفة ونجا المركب.
كان همّ غريغوريوس وباسيليوس واحد مشترك: محبة الله ثم محبة البلاغة والأدب والفلسفة. لذا اجتنبا عشرة الترف والبذخ والتسليات البطّالة. ولم يعرفا في إقامتهما في أثينا سوى طريقين: ذاك الذي يفضي إلى الكنيسة وذاك الذي يؤدي إلى المدرسة. نبذا الغنى وحسباه أشواكاً. اكتفيا من مخصصاتهما بما يسد ضروريات الجسد والباقي درجا على توزيعه للفقراء. لم يكن للحسد مكان فيهما. الحب الخالص جعل كلاً منهما يحسب كرامة صاحبه ومنفعته ككرامته ومنفعته هو. وكل واحد اقتدى بأخيه في إتمام الصوم والصلاة وكل فضيلة.
بقي غريغوريوس في أثينا إلى سن الثلاثين تقريباً ثم عاد إلى نزينزة. أول ما فعله اقتبل سر المعمودية من يد أبيه مكرِّساً نفسه بالكلية لله. قال: "قد أعطَيتُ كل ما هو لي لذاك الذي أعطاني إياه فأضحى هو لي كل ما أملك. كرست له خيراتي واعتباري وصحتي ولساني ومواهبي. والثمرة التي جنيتها من كل هذه الامتيازات هي الغبطة التي أشعر بها من جرّاء اعتباري لها جميعاً كلا شيء من أجل المسيح". من تلك اللحظة مات غيرغوريوس عن الطموحات العالمية والغنى والشهرة ومتع الحياة الدنيا. وحده الله أضحى له الكل ووحده اللاهوت أضحى المتعة. بات طعامه الخبز اليابس مع الملح والماء. أخذ ينام على الأرض ولا يلبس إلا الخشن والحقير. صار يعمل النهار بطوله ويصرف سحابة هامة من ليله في تمجيد الله والتأمل في الإلهيات. وإلى الغنى أعرض غريغوريوس عن الآداب العالمية، تلك التي أنفق الكثير من الوقت والجهد في تحصيلها. قدّم نفسه قرباناً لله، فيما هجر المؤلفات الكلاسيكية اليونانية وكُتب الشعر والبلاغة "طعاماً للدود والعث" على حد تعبيره. باتت أعظم الكرامات العالمية لعينيه أحلاماً خاوية ينخدع بها الناس. لم يعد شيء، في نظره، يداني حياة الإنسان الذي مات عن نفسه وعن أمياله الحسيّة وصار يعيش كما لو كان خارج العالم، ولا حديث له يستهويه إلا إلى ربه (الخطبة 29). اهتم، لبعض الوقت، بإدارة شؤون بيت أبيه، لكنه مرض مرات بسبب نسكة المتشدد وبكائه وقلة خلوده إلى النوم. وإذ اعتاد في فتوته القهقهة استعاض عنها الآن بالبكاء. لم يعد للغضب سلطان عليه وخلدت نفسه إلى الهدوء. سخاؤه في العطاء للفقير جعله خلواً من خيرات الأرض كأفقر الناس. فيما استحال بيته وأرضه إلى ما يشبه الميناء للمسافرين في البحر. حبه للخلوة والصمت كان كبيراً. وكان يرثي للمبالغات المتأتية من إقبال الناس على كثرة الكلام، وللهف الشقي الذي يستبد بالناس لأن يصبحوا معلمين لغيرهم.
لم تدم إقامة غريغوريوس في نزينزة طويلاً. كان يتوق إلى حياة التوحد. في تلك الأثناء كانت بين الصديقين، باسيليوس وغريغوريوس، مراسلات. فلما عرض باسيليوس تأسيس منسك لاقى عرضه صدى طيباً في نفس صديقه. اختلف الصديقان على موقع المنسك. وأخيراً اتفقا على المكان الذي اختاره باسيليوس في إيبوره مقابل مختلى أمه أنيسي، وهي من ممتلكات عائلته.
في إيبورة أقام غريغوريوس قرابة السنتين. سهر وصام وصلى ودرس الكتب المقدسة ورنم المزامير وعمل بيديه واشتغل وصديقه في جمع مختارات من كتابات أوريجانيس المعلم أسمياها الفيلوكاليا (محب الخير) وتساعدا في وضع قانون الحياة الرهبانية للشركة الناشئة.
والد القديس غريغوريوس كان قد جاوز الثمانين وكان بحاجة إلى ابنه معيناً له في تدبير شؤون الرعية في نزينزة. لهذا السبب عاد قدّيسنا ليكون بجانب أبيه. لكن الأجواء كانت مشدودة لأن غريغوريوس الشيخ وقّع، من دون انتباه، بياناً توفيقياً لا يخلو من الآراء الآريوسية. نتيجة ذلك تصدى له العديدون، لا سيما الرهبان، وأرادوا التخلص منه. فلما وصل قديسنا أصلح الحال وهدأ النفوس، فعاد السلام إلى نزينزة وأكبر المؤمنون عمل غريغوريوس إكباراً عظيماً.
ثم في ميلاد العام 361م حدث ما شكّل لغريغوريوس صدمة. فجأة أمسكوه وحملوه إلى الكنيسة حملاً وألزموه أن يصير كاهناً. لم يكن بإمكانه لا أن يرفض ولا أن يهرب فسلم أمره لله ورضخ للأمر الواقع الذي أسماه، فيما بعد، "عمل استبداد روحي". لكنه لم يثبت أكثر من اثني عشر يوماً هرب بعدها إلى صديقه في إيبورة، فأقنعه صديقه بضرورة العودة فعاد صاغراً في عيد الفصح من السنة التالية 362م. وقد دافع عن نفسه في خطبة تعتبر من أجمل ما قيل في الكهنوت ومنها استقى القديس يوحنا الذهبي الفم مقالته في الموضوع نفسه. كيف دافع غريغوريوس عن موقفه؟ تحدث عن رفعة الكهنوت وواجباته ومخاطر الخدمة الكهنوتية. القداسة شرط الدنو من الهيكل والمثول أمام الله، سيد الطهارة. ليس أقسى من أن يسوس المرء ضمائر الناس ويعالج أدواء النفوس. لا بد من الفضيلة والعلم للقيام بهذه الأعباء المقدسة وتلبية حاجات المؤمنين ودحض المفاسد. فمن حق غريغوريوس أن يضطرب إزاء جسامة المسؤولية وأن يسعى إلى إعداد نفسه لخدمة الهيكل بالصلاة والنسك والتأمل. "لا بد للمرء أن ينقي نفسه قبل أن ينقي غيره، وأن يصبح حكيماً قبل أن يحمل الآخرين إلى الحكمة، وأن يصير نوراً قبل أن يعطي النور، وأن يدنو من الله قبل أن يحملهم إليه، وأن يتقدس قبل أن يقدس الآخرين، وأن تكون له يدان قبل أن يقود الآخرين باليد، وأن تكون له حكمة قبل أن يتكلم بحكمة". وقد أفصح غريغوريوس أن شعوره بعدم الاستحقاق هو السبب الأول لفراره وأنه إذ يعود ليقبل الكهنوت، لا يعود لشعوره بأنه بات مستحقاً بل لاشتياقه إلى شعب نزينزة ولوالدية المسنين ولأنه لا يجوز أن يقاوم أحد دعوة الله له. فها قد عاد كيونان راجياً أن تشدده الطاعة وتزوده بالنعمة اللازمة لإتمام خدمته. بقي غريغوريوس في نزينزة ما يقرب من السنوات العشر يعمل بصمت مكتفياً بممارسة نسكه على طريقته.
سنة 370م أضحى باسيليوس الكبير رئيس أساقفة على قيصرية الكبادوك. أحد الذين لعبوا دوراً بارزاً في حمله إلى سدّة رئاسة الكهنوت كان غريغوريوس الشيخ، أما قديسنا فعمل من بعيد وسعى لأن يبقى خارج صورة الاحتفالات وتحركات أنصار باسيليوس. خلوته من ناحية وحرصه على الابتعاد عن الأضواء من ناحية أخرى أبقياه بعيداً عن باسيليوس. عرض عليه صديقه بعد حين أن يكون متقدماً في كهنة قيصرية فرفض العرض. ومرت أشهر فإذا بمشكلة كأداء تطرأ. فالنس، الإمبراطور ذو الأميال الآريوسية، أراد إضعاف سلطة باسيليوس وإيهام شأنه، فأصدر مرسوماً قضى بتقسيم ولاية الكبادوك إلى مقاطعتين، الأولى عاصمتها قيصرية والثانية عاصمتها تيانا. وحيث أن التقسيم الكنسي كان يتبع التقسيم الإداري المدني، فقد خسر باسيليوس أكثر من نصف أبرشيته. وحتى لا تضعف سلطته في مواجهة فالنس ورئيس أساقفة الأبرشية الجديدة أنثيموس، فقد سعى، وبسرعة، إلى تحويل عدد من القرى المغمورة إلى أسقفيات جعل عليها أساقفة من أنصاره. أحد الذين شملهم التدابير الجديدة كان غريغوريوس. أراده باسيليوس على زاسيما المتاخمة لحدود أبرشية تيانا. زاسيما كانت محطة للخيل على ملتقى ثلاث طرق، وصفها غريغوريوس بأنها مكان صغير كريه لا ماء فيه ولا عشب ولا شيء من معالم الحضارة. وأضاف: لا يوجد هنا غير الغبار والضجيج والصراخ والأنين والموظفين الأشقياء والسلاسل وأدوات التعذيب؛ والسكان جلّهم من التجار المسافرين والغرباء.
لم يشأ غريغوريوس أول الأمر أن يستجيب. شعر بأن صديقه خانه واختاره للأسقفية الجديدة في أشقى موضع في الأرض. الصداقة بين الرجلين كانت على المحك. أخيراً، وكالعادة، لم يكن أمام غريغوريوس إلاّ الرضوخ فسيم أسقفاً على زاسيما في نزينزة. كان ذلك 372م. في المقابل رأى غريغوريوس نفسه أنه كالعظم يلقى للكلاب. وقد عزم على التوجه إلى زاسيما والبقاء فيها طالما كان ذلك نافعاً. لكنه لما ذهب إلى هناك، والبعض يقول إنه لم يذهب إليها البتّة، أدرك أنه لا شيء يُرتجى من إقامته فيها فعاد أدراجه إلى نزينزة، مساعداً لأبيه. كانت زاسيما على بعد أربعة وعشرين ميلاً من نزينزة. مذ ذاك أصاب علاقته بباسيليوس الفتور.
بقي غريغوريوس في نزينزة إلى حوالي 375م حلت به خلالها محن قاسية، لا سيما لرهافة حسّه. أبوه وأمه وأخوه وأخته كلّهم رقدوا في غضون سنوات قليلة، فيما مرض هو وقرب من الموت. كما حلّت النكبات الطبيعية بنزينزة: الطاعون أصاب البقر والبرد خرّب المحاصيل. الفلاحون تضايقوا وعمال الضرائب ضغطوا فكانت شبه ثورة أخمدها العسكر وخلّفت مآس وضيقات. انحطت نزينزة كمدينة وهدّد الحاكم بهدمها بالكامل. أجواء القلق والخوف سيطرت. غريغوريوس وعظ وشدّد كما فعل يوحنا الذهبي الفم حين ساد الخوف أنطاكية إثر تحطيم التماثيل الملكية. هنا أيضاً لم ينفّذ الحاكم تهديده. لكن النفوس أقامت مشوّشة مضطربة متضايقة سنوات.
وكما ضغطت الأحداث على غريغوريوس من الخارج، ضغطت عليه أحزانه من الداخل، فلم يجد لنفسه مهرباً إلا الخلوة والهدوء، فغادر إلى سلفكية إيصفرية حيث بقي ما يقرب من السنوات الأربع كما لو كان في مقبرة منعزلاً عن العالم.
وكان يمكن لغريغوريوس أن ينهي حياته في سلفكية على هذا المنوال. لكن كان لربه في شأنه تدبير آخر. ففي سنة 378م قُتل الإمبراطور الآريوسي فالنس ولاحت في سماء الكنيسة تباشير فجر جديد. وسنة 379م رقد في الرب عمود الأرثوذكسية، في ذلك الزمان، القديس باسيليوس الكبير. كلا الحدثين حملا غريغوريوس على العودة إلى أرتنزة.
لما وصله خبر وفاة باسيليوس انصدم ومرض. كتب لصديق له يدعى إقذوكسيوس يقول: "تسأل عن حياتي فأخبرك. أنا كأس تفيض مرارة. خسرت باسيليوس. خسرت قيصاريوس الذي كان أخي في الجسد وأخي في الروح. صحتي ضعيفة. الشيخوخة تحوم حولي وتكدني الهموم. أصدقائي لا أمانة فيهم والكنيسة بلا رعاة. كل الكرامات بادت. الإثم يربض سافراً أمام العيون. نسافر في الظلمة ولا منارة بعد. المسيح راقد! ماذا سيحدث لنا؟ لست أتطلّع إلى النياح من هذه النكبات إلا بالموت. وإذا كان لي أن أحكم باعتبار ما هو قائم هنا فإني أرتعد من الآتي بعد القبر!"
إثر وفاة فالنس الإمبراطور تلحلح الوضع الكنسي وتنفس الفريق الأرثوذكسي الصعداء. الأرثوذكس في القسطنطينية كانو قلّة مبعثرة. مائة كنيسة في المدينة كانت في يد الآريوسيين. ولا واحدة كانت للأرثوذكس. لقد أقامت المدينة في السبي الآريوسي أربعين سنة كاملة. والآن بعد أن أطل فجر جديد جالت العيون في من تُرى يجمع شمل الرعية المتبدّدة ويشدّ أزرها. وكان غريغوريوس الخيار فاستجاب بعزم وحميّة لم يعهدهما أحد فيه من قبل. كيف لا والقضية قضية الثالوث القدّوس! الأمانة والغيرة أخرجاه من مرارة نفسه إلى حلاوات النور، ومن الانكفاء إلى طليعة خراف المسيح. فجأة وُجد في القسطنطينية. لا نعرف كيف ولا الظروف. كان قد صلع وانحنى وارتسمت على محياه معالم النسك واحتفرت في وجهه مجاري الدموع. كان فقير الثوب، فقير الروح، لا هيأة له ولا جمال. لكن روح الرب كان فيه قوياً أخّاذاً والكلمة في فمه خلابة.
لم يجد غريغوريوس في القسطنطينية كنيسة واحدة يلتقي فيها المؤمنين. أحد أقربائه فتح له داره فحوّل إحدى القاعات فيها كنيسة دعيت "كنيسة القيامة". في هذا المكان بالذات. فيما يبدو تفوه قديسنا بخطبه اللاهوتية الخمسة الشهيرة، تلك التي أهّلته للقب "اللاهوتي". لم يكن أحد، إلى ذلك الزمان، قد لُقِّب بـ"اللاهوتي" إلا القديس يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. وغيّرت مواعظه الموازين. انقلب الشعب إليه وانقلب الهراطقة عليه. الآريوسيون والأُبوليناريون سعوا جهدهم للتخلص منه. ألقوا عليه الحجارة. حاولوا تدنيس مقامه. رهبان هراطقة ونساء مولولات كمنوا له وهاجموه بالعصي وجمر النار. لكنه صمد وثبت. حقّق في أقل من سنتين ما لم يحقّقه في مجمل حياته إلى ذلك الحين. ولما أقام مشبوهون رجلاً يعكّر عليه ويغتصب القسطنطينية من يديه، اسمه مكسيموس الكلبي سيم أسقفاً على المدينة زوراً، ودّ غريغوريوس لو يعود إلى خلوته وهدوئه فطالعه الشعب المؤمن قائلاً: إذا غادرتنا غادرت الثالوث القدوس فبقي ولم يتزحزح! الثالوث كما قال كان غاية القصد والنيّة والزينة.
أخيراً في 24 كانون الأول سنة 380م دخل ثيوذوسيوس المدينة قيصراً. وإذ كان أرثوذكسياً، طرد الآريوسيين وأسقفهم ذيموفيلوس من القسطنطينية في أيام. أخيراً سادت الأرثوذكسية ولم تقم للآريوسية من بعد قائمة. بعد يومين رافق ثيوذوسيوس غريغوريوس إلى كنيسة آجيا صوفيا، فيما بعد ارتفعت أصوات المؤمنين عشرة آلاف، تنادي: غريغوريوس أسقفاً! ثيوذوسيوس بارك. لكن الأمر كان بحاجة إلى مجمع قانوني يصدّق. في أيار 381م التأم مجمع عام في القسطنطينية برئاسة ملاتيوس الأنطاكي صادق على التعيين. ولكن في غضون أيام تغيّرت المعطيات من جديد.
ما أن جرى افتتاح المجمع المسكوني الثاني حتى رقد رئيسه ملاتيوس بالرب فأختير غريغوريوس رئيساً محلّه. كان على المجمع أن يعالج موضوع خلافة ملاتيوس على أنطاكية. وكان هناك حزبان أنطاكيان: حزب ملاتيوس وحزب بولينوس. غريغوريوس دعا إلى القبول ببولينوس أسقفاً بعدما رقد ملاتيوس. لم يرق العرض للعديدين من أساقفة الشرق. اضطرب حبل الوفاق. وصل أساقفة الإسكندرية ومقدونية بعد أيام. دخلوا في الصراع. لم يتمكن غريغوريوس من ضبط الأمور. شبّه الأساقفة بسرب من القوق الهذر وبعاصف من الدبابير اللاسعة. حلّت الخيبة بغريغوريوس كبيرة. لم تعد المشكلة مع الهراطقة بل بين أفراد الأسرة الواحدة. الحسد وحب السلطة بانا أشد خطراً على الكنيسة وإيلاماً من الهرطقات. وارتفعت الأصوات، لا سيما من جماعة الإسكندرية ومقدونية. ان أسقفية غريغوريوس على القسطنطينية مخالفة للقوانين لأنه سيم على زاسيما. غريغوريوس بان مستهدفاً وكأن القوم أرادوه كبش محرقة. لم ترق رفعته لكثيرين، لا سيما لهذا المظهر الفقير الحقير الذي كان عليه. رئيس أساقفة يعامل في نظرهم كالملوك ويسلك كالملوك وله عزّ وجاه. لا يليق أن يكون على كرسي العاصمة رجل مريض، أصلع، رثّ الثياب كهذا الرجل. لذا تحوّل الموضوع فجأة من موضوع معالجة قضية الكرسي الأنطاكي إلى معالجة قضية الكرسي القسطنطيني. وقد دفع الحسّاد أحد الرجال إلى محاولة قتل غريغوريوس، فلما كان على وشك تنفيذ جريمته انهار واعترف تائباً.
لم يدافع غريغوريوس عن نفسه وعن مركزه. نفسه توّاقة، في كل حال، إلى الخلوة والهدوء ولا يجد سلاماً لنفسه في فوهة وكر الدبابير هذا. لذا اعتبر أنها بركة من عند الله أن يُعفى من مهامه ولو استقرت المرارة في نفسه على رثاثة نفوس من استودعوا أمانة رعاية خراف المسيح. فعرض التنحّي والمغادرة واستجيب طلبه. ترك القسطنطينية وعاد الى وطنه وقد كتب إلى أحد اصدقائه معبّراً عن فرحه بقوله "إني أُقدِّر فضل أعدائي عليَّ ونعمة حسدهم لي. لأنهم أنقذوني من نار سدوم بابعادهم إياي عن أخطار الأسقفية".
سنوات قديسنا الأخيرة قضاها في وطنه أزينزة في أعمال النسك وإماتة الجسد والتعبد إلى الله ووضع الأناشيد الروحية وكتابة الرسائل والشعر، وكان يدافع عن الإيمان من وقت لآخر، كان أحياناً يغور في أحد الكهوف ينام على المسوح ويصادق الحيوانت. وقد أوصى بكل ما بقي له للفقراء. أما وفاته فكانت في السنة 389م أو 391م عن عمر يناهز الستين. ترك مجموعة خطب ومواعظ ورسائل كثيرة تتكلم عن الثالوث الأقدس ووحدانية جوهره.
من أقواله الروحيه: قال الأب غريغوريوس: ثلاثة أمور يطلبها الله من الإنسان الذي اقتبل سر المعمودية: الإيمان القويم من كل النفس، الحقيقة من الفم، والتعقل من الجسد. وقال أيضاً: حياة الإنسان كلها يوم واحد بالنسبة للذين يتبعونه بشوق.
كان حيوياً قصير القامة، أصلع، ذا لحية ورموش حمراء، متجعداً، يعاني من الأوجاع بصورة شبه متواصلة، مضنى من الأسهار والأصوام، فقيراً، رثّ الثياب. يتكلم بعفوية. قاطعاً في كلامه. لا يخشى أحداً. ساخراً بشكل غير متجهّم الوجه لا تسّره صحبة أكثر الناس. يميل إلى الإبتعاد عن العالم بشكل حاد. وكان شاحب الوجه، له ندب فوق عينيه اليمنى. بقي يقرأ ويكتب طيلة أيامه. هو أول شاعر مسيحي بمعنى الكلمة وكان يكتب النثر ملائكياً. أحبّ الله أولاً، ثم البلاغة، ثم الناس، بهذا الترتيب.
نُقلت رفاته، بعد قليل من موته، إلى القسطنطينية حيث بقيت إلى زمن الصيلبيين الذين سرقوها إلى رومية سنة 1204م. وهي اليوم في الفاتيكان، في كنيسة القديس غريغوريوس التي صممها ميكل أنجلو.
تعيّد له كنيستنا الأرثوذكسية في اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني.
طروبارية على اللحن الأوَّل
إنَّ مزمار كلامك اللاهوتي الرعائي أيّها الأب غريغوريوس قد استظهر على أبواق الخطباء وغلبها. فانَّك بحثت في أعماق الروح القدس فزيدت لك فصاحة الكلام وبداعته . فتشفَّع إلى المسيح الاله في خلاص نفوسنا.
25 /1 شرقي (7 /2 غربي)
هو معروف أيضاً بلقب النزينزي نسبة إلى مدينة نزينزة من أعمال قيصرية الكابودوك. في هذه المدينة نشأ قديسنا وترعرع. ويبدو أن ولادته كانت في مزرعة قريبة من المدينة تدعى أرينزة ملكتها العائلة، تاريخ ولادته غير محدد تماماً يظن أنه نحو سنة 329/330م.
أبوه هو القديس غريغوريوس الشيخ المعيّد له في أول كانون ثاني، انتمى والده منذ الصغر إلى نِحلة تعرف بـ "عبّاد العلي" أو "الإيبسيستاري"، جمعت بين الوثنية إلى بعض اليهودية وأكرمت النور والنار. لكنه كان رجل استقامة بحسب الناموس الطبيعي. اهتدى واعتمد بتأثير زوجته المؤمنة وسلك في الفضيلة. لوحظ لفضله وحكمته وغيرته على الكنيسة فأختير أسقفاً على مدينة نزينزة. أحب الفقير حباً كبيراً وعاش إلى مئة عام.
أما أمه فهي القديسة نونة المعيّد لها في الخامس من شهر آب، كانت زينة النساء المسيحيات تقية مصليّة فاضلة حكيمة وصبورة. نذرت قديسنا لله حتى قبل أن يبصر النور. فلما أنجبته جعلت يديه كلتيهما على الإنجيل علامة تكريسها إياه لخدمة الله. وإلى غريغوريوس أنجب الزوجان الفاضلان بنتاً وصبياً، وكلاهما قديس: غرغونية يعيّد لها في 23 شباط، وقيصاريوس ويعيّد له في 25 شباط.
في طفولته أتاه حلم انطبع في نفسه، أن عذراوين جاءتا إليه مجلّلتين بالبياض، اسم إحداهما "أغني" (طهارة) واسم الثانية "إفروسيني" (عفة) وأخبرتاه أنهما ترافقان الرب يسوع على الدوام وكذا الذين يلتمسون الحياة السماوية. كما دعتاه إلى توحيد قلبه وروحه بهما حتى إذا ما امتلأ من بهاء البتولية قدّمتاه إلى نور الثالوث القدوس.
بقي غريغوريوس في نزينزة حتى الثالثة عشرة من العمر، حصل خلالها ما أمكنه من العلوم المعرفة. ثم انتقل إلى قيصرية الكبادوك حيث التقى القديس باسيليوس الكبير الذي أصبح فيما بعد أعز أصدقاءه وربيب عمره وأليف نفسه. ثم اتجه إلى قيصرية فلسطين ولاحقاً إلى الإسكندرية باحثاً عن العلم والمعرفة. وفي سن السابعة عشرة انتقل إلى أثينا ليدرس البلاغة والشعر والأدب والفلسفة على يد أشهر معلمي ذاك الزمان. وهناك التقى قديسنا مع باسيليوس من جديد ونمت الصداقة بينهما إلى أبعد الحدود. وقد تابعا الدراسة سوية سنوات.
في سفره من الإسكندرية إلى أثينا وتحديداً في مياه جزيرة قبرص، تعرض المركب الذي يبحر فيه غريغوريوس إلى عواصف جمة، وتلهّت به الرياح عشرين يوماً ويزيد. نفذ ماء الشرب ولاح شبح الموت ثقيلاً كل يوم. ارتعب غريغوريوس وارتجت نفسه حتى العظم، والسبب أنه لم يكن قد نال سر المعمودية بعد. وإذ خشي غريغوريوس أن يُقضى عليه من دون أن يعتمد ركع وصلى بدموع وعاهد ربه على خدمته ما حيي لو قدّر له أن ينجو من هذا الخطر. للحال هدأت العاصفة ونجا المركب.
كان همّ غريغوريوس وباسيليوس واحد مشترك: محبة الله ثم محبة البلاغة والأدب والفلسفة. لذا اجتنبا عشرة الترف والبذخ والتسليات البطّالة. ولم يعرفا في إقامتهما في أثينا سوى طريقين: ذاك الذي يفضي إلى الكنيسة وذاك الذي يؤدي إلى المدرسة. نبذا الغنى وحسباه أشواكاً. اكتفيا من مخصصاتهما بما يسد ضروريات الجسد والباقي درجا على توزيعه للفقراء. لم يكن للحسد مكان فيهما. الحب الخالص جعل كلاً منهما يحسب كرامة صاحبه ومنفعته ككرامته ومنفعته هو. وكل واحد اقتدى بأخيه في إتمام الصوم والصلاة وكل فضيلة.
بقي غريغوريوس في أثينا إلى سن الثلاثين تقريباً ثم عاد إلى نزينزة. أول ما فعله اقتبل سر المعمودية من يد أبيه مكرِّساً نفسه بالكلية لله. قال: "قد أعطَيتُ كل ما هو لي لذاك الذي أعطاني إياه فأضحى هو لي كل ما أملك. كرست له خيراتي واعتباري وصحتي ولساني ومواهبي. والثمرة التي جنيتها من كل هذه الامتيازات هي الغبطة التي أشعر بها من جرّاء اعتباري لها جميعاً كلا شيء من أجل المسيح". من تلك اللحظة مات غيرغوريوس عن الطموحات العالمية والغنى والشهرة ومتع الحياة الدنيا. وحده الله أضحى له الكل ووحده اللاهوت أضحى المتعة. بات طعامه الخبز اليابس مع الملح والماء. أخذ ينام على الأرض ولا يلبس إلا الخشن والحقير. صار يعمل النهار بطوله ويصرف سحابة هامة من ليله في تمجيد الله والتأمل في الإلهيات. وإلى الغنى أعرض غريغوريوس عن الآداب العالمية، تلك التي أنفق الكثير من الوقت والجهد في تحصيلها. قدّم نفسه قرباناً لله، فيما هجر المؤلفات الكلاسيكية اليونانية وكُتب الشعر والبلاغة "طعاماً للدود والعث" على حد تعبيره. باتت أعظم الكرامات العالمية لعينيه أحلاماً خاوية ينخدع بها الناس. لم يعد شيء، في نظره، يداني حياة الإنسان الذي مات عن نفسه وعن أمياله الحسيّة وصار يعيش كما لو كان خارج العالم، ولا حديث له يستهويه إلا إلى ربه (الخطبة 29). اهتم، لبعض الوقت، بإدارة شؤون بيت أبيه، لكنه مرض مرات بسبب نسكة المتشدد وبكائه وقلة خلوده إلى النوم. وإذ اعتاد في فتوته القهقهة استعاض عنها الآن بالبكاء. لم يعد للغضب سلطان عليه وخلدت نفسه إلى الهدوء. سخاؤه في العطاء للفقير جعله خلواً من خيرات الأرض كأفقر الناس. فيما استحال بيته وأرضه إلى ما يشبه الميناء للمسافرين في البحر. حبه للخلوة والصمت كان كبيراً. وكان يرثي للمبالغات المتأتية من إقبال الناس على كثرة الكلام، وللهف الشقي الذي يستبد بالناس لأن يصبحوا معلمين لغيرهم.
لم تدم إقامة غريغوريوس في نزينزة طويلاً. كان يتوق إلى حياة التوحد. في تلك الأثناء كانت بين الصديقين، باسيليوس وغريغوريوس، مراسلات. فلما عرض باسيليوس تأسيس منسك لاقى عرضه صدى طيباً في نفس صديقه. اختلف الصديقان على موقع المنسك. وأخيراً اتفقا على المكان الذي اختاره باسيليوس في إيبوره مقابل مختلى أمه أنيسي، وهي من ممتلكات عائلته.
في إيبورة أقام غريغوريوس قرابة السنتين. سهر وصام وصلى ودرس الكتب المقدسة ورنم المزامير وعمل بيديه واشتغل وصديقه في جمع مختارات من كتابات أوريجانيس المعلم أسمياها الفيلوكاليا (محب الخير) وتساعدا في وضع قانون الحياة الرهبانية للشركة الناشئة.
والد القديس غريغوريوس كان قد جاوز الثمانين وكان بحاجة إلى ابنه معيناً له في تدبير شؤون الرعية في نزينزة. لهذا السبب عاد قدّيسنا ليكون بجانب أبيه. لكن الأجواء كانت مشدودة لأن غريغوريوس الشيخ وقّع، من دون انتباه، بياناً توفيقياً لا يخلو من الآراء الآريوسية. نتيجة ذلك تصدى له العديدون، لا سيما الرهبان، وأرادوا التخلص منه. فلما وصل قديسنا أصلح الحال وهدأ النفوس، فعاد السلام إلى نزينزة وأكبر المؤمنون عمل غريغوريوس إكباراً عظيماً.
ثم في ميلاد العام 361م حدث ما شكّل لغريغوريوس صدمة. فجأة أمسكوه وحملوه إلى الكنيسة حملاً وألزموه أن يصير كاهناً. لم يكن بإمكانه لا أن يرفض ولا أن يهرب فسلم أمره لله ورضخ للأمر الواقع الذي أسماه، فيما بعد، "عمل استبداد روحي". لكنه لم يثبت أكثر من اثني عشر يوماً هرب بعدها إلى صديقه في إيبورة، فأقنعه صديقه بضرورة العودة فعاد صاغراً في عيد الفصح من السنة التالية 362م. وقد دافع عن نفسه في خطبة تعتبر من أجمل ما قيل في الكهنوت ومنها استقى القديس يوحنا الذهبي الفم مقالته في الموضوع نفسه. كيف دافع غريغوريوس عن موقفه؟ تحدث عن رفعة الكهنوت وواجباته ومخاطر الخدمة الكهنوتية. القداسة شرط الدنو من الهيكل والمثول أمام الله، سيد الطهارة. ليس أقسى من أن يسوس المرء ضمائر الناس ويعالج أدواء النفوس. لا بد من الفضيلة والعلم للقيام بهذه الأعباء المقدسة وتلبية حاجات المؤمنين ودحض المفاسد. فمن حق غريغوريوس أن يضطرب إزاء جسامة المسؤولية وأن يسعى إلى إعداد نفسه لخدمة الهيكل بالصلاة والنسك والتأمل. "لا بد للمرء أن ينقي نفسه قبل أن ينقي غيره، وأن يصبح حكيماً قبل أن يحمل الآخرين إلى الحكمة، وأن يصير نوراً قبل أن يعطي النور، وأن يدنو من الله قبل أن يحملهم إليه، وأن يتقدس قبل أن يقدس الآخرين، وأن تكون له يدان قبل أن يقود الآخرين باليد، وأن تكون له حكمة قبل أن يتكلم بحكمة". وقد أفصح غريغوريوس أن شعوره بعدم الاستحقاق هو السبب الأول لفراره وأنه إذ يعود ليقبل الكهنوت، لا يعود لشعوره بأنه بات مستحقاً بل لاشتياقه إلى شعب نزينزة ولوالدية المسنين ولأنه لا يجوز أن يقاوم أحد دعوة الله له. فها قد عاد كيونان راجياً أن تشدده الطاعة وتزوده بالنعمة اللازمة لإتمام خدمته. بقي غريغوريوس في نزينزة ما يقرب من السنوات العشر يعمل بصمت مكتفياً بممارسة نسكه على طريقته.
سنة 370م أضحى باسيليوس الكبير رئيس أساقفة على قيصرية الكبادوك. أحد الذين لعبوا دوراً بارزاً في حمله إلى سدّة رئاسة الكهنوت كان غريغوريوس الشيخ، أما قديسنا فعمل من بعيد وسعى لأن يبقى خارج صورة الاحتفالات وتحركات أنصار باسيليوس. خلوته من ناحية وحرصه على الابتعاد عن الأضواء من ناحية أخرى أبقياه بعيداً عن باسيليوس. عرض عليه صديقه بعد حين أن يكون متقدماً في كهنة قيصرية فرفض العرض. ومرت أشهر فإذا بمشكلة كأداء تطرأ. فالنس، الإمبراطور ذو الأميال الآريوسية، أراد إضعاف سلطة باسيليوس وإيهام شأنه، فأصدر مرسوماً قضى بتقسيم ولاية الكبادوك إلى مقاطعتين، الأولى عاصمتها قيصرية والثانية عاصمتها تيانا. وحيث أن التقسيم الكنسي كان يتبع التقسيم الإداري المدني، فقد خسر باسيليوس أكثر من نصف أبرشيته. وحتى لا تضعف سلطته في مواجهة فالنس ورئيس أساقفة الأبرشية الجديدة أنثيموس، فقد سعى، وبسرعة، إلى تحويل عدد من القرى المغمورة إلى أسقفيات جعل عليها أساقفة من أنصاره. أحد الذين شملهم التدابير الجديدة كان غريغوريوس. أراده باسيليوس على زاسيما المتاخمة لحدود أبرشية تيانا. زاسيما كانت محطة للخيل على ملتقى ثلاث طرق، وصفها غريغوريوس بأنها مكان صغير كريه لا ماء فيه ولا عشب ولا شيء من معالم الحضارة. وأضاف: لا يوجد هنا غير الغبار والضجيج والصراخ والأنين والموظفين الأشقياء والسلاسل وأدوات التعذيب؛ والسكان جلّهم من التجار المسافرين والغرباء.
لم يشأ غريغوريوس أول الأمر أن يستجيب. شعر بأن صديقه خانه واختاره للأسقفية الجديدة في أشقى موضع في الأرض. الصداقة بين الرجلين كانت على المحك. أخيراً، وكالعادة، لم يكن أمام غريغوريوس إلاّ الرضوخ فسيم أسقفاً على زاسيما في نزينزة. كان ذلك 372م. في المقابل رأى غريغوريوس نفسه أنه كالعظم يلقى للكلاب. وقد عزم على التوجه إلى زاسيما والبقاء فيها طالما كان ذلك نافعاً. لكنه لما ذهب إلى هناك، والبعض يقول إنه لم يذهب إليها البتّة، أدرك أنه لا شيء يُرتجى من إقامته فيها فعاد أدراجه إلى نزينزة، مساعداً لأبيه. كانت زاسيما على بعد أربعة وعشرين ميلاً من نزينزة. مذ ذاك أصاب علاقته بباسيليوس الفتور.
بقي غريغوريوس في نزينزة إلى حوالي 375م حلت به خلالها محن قاسية، لا سيما لرهافة حسّه. أبوه وأمه وأخوه وأخته كلّهم رقدوا في غضون سنوات قليلة، فيما مرض هو وقرب من الموت. كما حلّت النكبات الطبيعية بنزينزة: الطاعون أصاب البقر والبرد خرّب المحاصيل. الفلاحون تضايقوا وعمال الضرائب ضغطوا فكانت شبه ثورة أخمدها العسكر وخلّفت مآس وضيقات. انحطت نزينزة كمدينة وهدّد الحاكم بهدمها بالكامل. أجواء القلق والخوف سيطرت. غريغوريوس وعظ وشدّد كما فعل يوحنا الذهبي الفم حين ساد الخوف أنطاكية إثر تحطيم التماثيل الملكية. هنا أيضاً لم ينفّذ الحاكم تهديده. لكن النفوس أقامت مشوّشة مضطربة متضايقة سنوات.
وكما ضغطت الأحداث على غريغوريوس من الخارج، ضغطت عليه أحزانه من الداخل، فلم يجد لنفسه مهرباً إلا الخلوة والهدوء، فغادر إلى سلفكية إيصفرية حيث بقي ما يقرب من السنوات الأربع كما لو كان في مقبرة منعزلاً عن العالم.
وكان يمكن لغريغوريوس أن ينهي حياته في سلفكية على هذا المنوال. لكن كان لربه في شأنه تدبير آخر. ففي سنة 378م قُتل الإمبراطور الآريوسي فالنس ولاحت في سماء الكنيسة تباشير فجر جديد. وسنة 379م رقد في الرب عمود الأرثوذكسية، في ذلك الزمان، القديس باسيليوس الكبير. كلا الحدثين حملا غريغوريوس على العودة إلى أرتنزة.
لما وصله خبر وفاة باسيليوس انصدم ومرض. كتب لصديق له يدعى إقذوكسيوس يقول: "تسأل عن حياتي فأخبرك. أنا كأس تفيض مرارة. خسرت باسيليوس. خسرت قيصاريوس الذي كان أخي في الجسد وأخي في الروح. صحتي ضعيفة. الشيخوخة تحوم حولي وتكدني الهموم. أصدقائي لا أمانة فيهم والكنيسة بلا رعاة. كل الكرامات بادت. الإثم يربض سافراً أمام العيون. نسافر في الظلمة ولا منارة بعد. المسيح راقد! ماذا سيحدث لنا؟ لست أتطلّع إلى النياح من هذه النكبات إلا بالموت. وإذا كان لي أن أحكم باعتبار ما هو قائم هنا فإني أرتعد من الآتي بعد القبر!"
إثر وفاة فالنس الإمبراطور تلحلح الوضع الكنسي وتنفس الفريق الأرثوذكسي الصعداء. الأرثوذكس في القسطنطينية كانو قلّة مبعثرة. مائة كنيسة في المدينة كانت في يد الآريوسيين. ولا واحدة كانت للأرثوذكس. لقد أقامت المدينة في السبي الآريوسي أربعين سنة كاملة. والآن بعد أن أطل فجر جديد جالت العيون في من تُرى يجمع شمل الرعية المتبدّدة ويشدّ أزرها. وكان غريغوريوس الخيار فاستجاب بعزم وحميّة لم يعهدهما أحد فيه من قبل. كيف لا والقضية قضية الثالوث القدّوس! الأمانة والغيرة أخرجاه من مرارة نفسه إلى حلاوات النور، ومن الانكفاء إلى طليعة خراف المسيح. فجأة وُجد في القسطنطينية. لا نعرف كيف ولا الظروف. كان قد صلع وانحنى وارتسمت على محياه معالم النسك واحتفرت في وجهه مجاري الدموع. كان فقير الثوب، فقير الروح، لا هيأة له ولا جمال. لكن روح الرب كان فيه قوياً أخّاذاً والكلمة في فمه خلابة.
لم يجد غريغوريوس في القسطنطينية كنيسة واحدة يلتقي فيها المؤمنين. أحد أقربائه فتح له داره فحوّل إحدى القاعات فيها كنيسة دعيت "كنيسة القيامة". في هذا المكان بالذات. فيما يبدو تفوه قديسنا بخطبه اللاهوتية الخمسة الشهيرة، تلك التي أهّلته للقب "اللاهوتي". لم يكن أحد، إلى ذلك الزمان، قد لُقِّب بـ"اللاهوتي" إلا القديس يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. وغيّرت مواعظه الموازين. انقلب الشعب إليه وانقلب الهراطقة عليه. الآريوسيون والأُبوليناريون سعوا جهدهم للتخلص منه. ألقوا عليه الحجارة. حاولوا تدنيس مقامه. رهبان هراطقة ونساء مولولات كمنوا له وهاجموه بالعصي وجمر النار. لكنه صمد وثبت. حقّق في أقل من سنتين ما لم يحقّقه في مجمل حياته إلى ذلك الحين. ولما أقام مشبوهون رجلاً يعكّر عليه ويغتصب القسطنطينية من يديه، اسمه مكسيموس الكلبي سيم أسقفاً على المدينة زوراً، ودّ غريغوريوس لو يعود إلى خلوته وهدوئه فطالعه الشعب المؤمن قائلاً: إذا غادرتنا غادرت الثالوث القدوس فبقي ولم يتزحزح! الثالوث كما قال كان غاية القصد والنيّة والزينة.
أخيراً في 24 كانون الأول سنة 380م دخل ثيوذوسيوس المدينة قيصراً. وإذ كان أرثوذكسياً، طرد الآريوسيين وأسقفهم ذيموفيلوس من القسطنطينية في أيام. أخيراً سادت الأرثوذكسية ولم تقم للآريوسية من بعد قائمة. بعد يومين رافق ثيوذوسيوس غريغوريوس إلى كنيسة آجيا صوفيا، فيما بعد ارتفعت أصوات المؤمنين عشرة آلاف، تنادي: غريغوريوس أسقفاً! ثيوذوسيوس بارك. لكن الأمر كان بحاجة إلى مجمع قانوني يصدّق. في أيار 381م التأم مجمع عام في القسطنطينية برئاسة ملاتيوس الأنطاكي صادق على التعيين. ولكن في غضون أيام تغيّرت المعطيات من جديد.
ما أن جرى افتتاح المجمع المسكوني الثاني حتى رقد رئيسه ملاتيوس بالرب فأختير غريغوريوس رئيساً محلّه. كان على المجمع أن يعالج موضوع خلافة ملاتيوس على أنطاكية. وكان هناك حزبان أنطاكيان: حزب ملاتيوس وحزب بولينوس. غريغوريوس دعا إلى القبول ببولينوس أسقفاً بعدما رقد ملاتيوس. لم يرق العرض للعديدين من أساقفة الشرق. اضطرب حبل الوفاق. وصل أساقفة الإسكندرية ومقدونية بعد أيام. دخلوا في الصراع. لم يتمكن غريغوريوس من ضبط الأمور. شبّه الأساقفة بسرب من القوق الهذر وبعاصف من الدبابير اللاسعة. حلّت الخيبة بغريغوريوس كبيرة. لم تعد المشكلة مع الهراطقة بل بين أفراد الأسرة الواحدة. الحسد وحب السلطة بانا أشد خطراً على الكنيسة وإيلاماً من الهرطقات. وارتفعت الأصوات، لا سيما من جماعة الإسكندرية ومقدونية. ان أسقفية غريغوريوس على القسطنطينية مخالفة للقوانين لأنه سيم على زاسيما. غريغوريوس بان مستهدفاً وكأن القوم أرادوه كبش محرقة. لم ترق رفعته لكثيرين، لا سيما لهذا المظهر الفقير الحقير الذي كان عليه. رئيس أساقفة يعامل في نظرهم كالملوك ويسلك كالملوك وله عزّ وجاه. لا يليق أن يكون على كرسي العاصمة رجل مريض، أصلع، رثّ الثياب كهذا الرجل. لذا تحوّل الموضوع فجأة من موضوع معالجة قضية الكرسي الأنطاكي إلى معالجة قضية الكرسي القسطنطيني. وقد دفع الحسّاد أحد الرجال إلى محاولة قتل غريغوريوس، فلما كان على وشك تنفيذ جريمته انهار واعترف تائباً.
لم يدافع غريغوريوس عن نفسه وعن مركزه. نفسه توّاقة، في كل حال، إلى الخلوة والهدوء ولا يجد سلاماً لنفسه في فوهة وكر الدبابير هذا. لذا اعتبر أنها بركة من عند الله أن يُعفى من مهامه ولو استقرت المرارة في نفسه على رثاثة نفوس من استودعوا أمانة رعاية خراف المسيح. فعرض التنحّي والمغادرة واستجيب طلبه. ترك القسطنطينية وعاد الى وطنه وقد كتب إلى أحد اصدقائه معبّراً عن فرحه بقوله "إني أُقدِّر فضل أعدائي عليَّ ونعمة حسدهم لي. لأنهم أنقذوني من نار سدوم بابعادهم إياي عن أخطار الأسقفية".
سنوات قديسنا الأخيرة قضاها في وطنه أزينزة في أعمال النسك وإماتة الجسد والتعبد إلى الله ووضع الأناشيد الروحية وكتابة الرسائل والشعر، وكان يدافع عن الإيمان من وقت لآخر، كان أحياناً يغور في أحد الكهوف ينام على المسوح ويصادق الحيوانت. وقد أوصى بكل ما بقي له للفقراء. أما وفاته فكانت في السنة 389م أو 391م عن عمر يناهز الستين. ترك مجموعة خطب ومواعظ ورسائل كثيرة تتكلم عن الثالوث الأقدس ووحدانية جوهره.
من أقواله الروحيه: قال الأب غريغوريوس: ثلاثة أمور يطلبها الله من الإنسان الذي اقتبل سر المعمودية: الإيمان القويم من كل النفس، الحقيقة من الفم، والتعقل من الجسد. وقال أيضاً: حياة الإنسان كلها يوم واحد بالنسبة للذين يتبعونه بشوق.
كان حيوياً قصير القامة، أصلع، ذا لحية ورموش حمراء، متجعداً، يعاني من الأوجاع بصورة شبه متواصلة، مضنى من الأسهار والأصوام، فقيراً، رثّ الثياب. يتكلم بعفوية. قاطعاً في كلامه. لا يخشى أحداً. ساخراً بشكل غير متجهّم الوجه لا تسّره صحبة أكثر الناس. يميل إلى الإبتعاد عن العالم بشكل حاد. وكان شاحب الوجه، له ندب فوق عينيه اليمنى. بقي يقرأ ويكتب طيلة أيامه. هو أول شاعر مسيحي بمعنى الكلمة وكان يكتب النثر ملائكياً. أحبّ الله أولاً، ثم البلاغة، ثم الناس، بهذا الترتيب.
نُقلت رفاته، بعد قليل من موته، إلى القسطنطينية حيث بقيت إلى زمن الصيلبيين الذين سرقوها إلى رومية سنة 1204م. وهي اليوم في الفاتيكان، في كنيسة القديس غريغوريوس التي صممها ميكل أنجلو.
تعيّد له كنيستنا الأرثوذكسية في اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني.
طروبارية على اللحن الأوَّل
إنَّ مزمار كلامك اللاهوتي الرعائي أيّها الأب غريغوريوس قد استظهر على أبواق الخطباء وغلبها. فانَّك بحثت في أعماق الروح القدس فزيدت لك فصاحة الكلام وبداعته . فتشفَّع إلى المسيح الاله في خلاص نفوسنا.
مــنــتــدى الــكــنــيــســة الأرثــوذكــســيــة - فــلــســطــيــن - الأرض الــمــقدســة :: الفئة الأولى :: سير القديسين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى